نبذة :
رمضانُ مدرسةُ التقوى .. تأمل كيف ذُكرت التقوى في أول آية وأخر آية من آيات الصيام؛ ذلك أنّ الصيام من أعظم ما يُعزِّز التقوى في
النفوس، فلنُفتّش عن أثر الصيام على تقوانا لربنا في أسماعنا وأبصارنا وكلامنا، لنحقق الغاية: (لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ).
لتحميل المطوية
مقدِّمة
- منَ التَّطبيق العملي الَّذي كان يُمارسه النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- لقوله -تعالى-: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223]، أنَّه كان يُبشّر أصحابَه برمضان، ويقول: «إذا دخَل رمضانُ فُتِّحَتْ أبوابُ الجنَّةِ وغُلِّقَتْ أبوابُ جهنَّمَ، وسُلسِلَتِ الشياطينُ» [متَّفقٌ عليه واللفظ للبخاري 3277].
- من هدي السَّلف مع القرآن في رمضان: كان ابنُ مسعود يختمُ في رمضان في ثلاثٍ، وفي غير رمضان من الجمعة للجمعة. قالابن باز: "وهذا هو الموافق للسُّنَّة، وهو أدعى للتَّدبُّر والتفكُّر".
- ورد الصومُ في القرآن كفارةً لعدد منَ الذُّنوب العظيمة، وعند التَّأمُّل تجد أنَّ من أبرز أسباب وقوعِها ضعفُ الإرادة، والصَّومُ من أعظم وسائل تقويتِها وتوجيهِها. فهل نستثمر هذه الشَّعيرة لتهذيب هذه الملكة وبنائها ابتداء قبل أن يكون الصَّوم كفارةً وجزاءً؟
تأمُّلاتٌ في آيات الصِّيام
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿183﴾ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 183-184].
1- تأمَّل كم في آية الصيام من ترغيبٍ في الصَّوم، بدأها بالنِّداء المُحَبَّب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، وبيَّن أنَّه فريضةٌ لا مندوحة في تركه{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، وأنَّه ليس خاصًّا بنا بل هو للأمم كلّها {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} وبيَّن ثمرتَه {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقلَّله{أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ}.
2- الصِّيام كان في الأمم السَّابقة {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}، والاعتكاف والقيام كذلك: {وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، وفي هذا إلهابٌ لعزائم هذه الأمَّة ألّا تُقصِّر عمَّن قبلها في تلك العبادات، فإنَّا الآخرون السَّابقون.
3- إذا تأمَّلت في قوله -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وكيف تلقَّى المسلمون هذه الفريضة بالقبول التَّامِّ، وقارنته بتردُّدِ وتباطؤِ بني إسرائيل في ذبح بقرةٍ فقط! عَلِمْتَ شرفَ هذه الأمَّةِ على سائر الأمم.
4- {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}:
1- استنبط منها بعضُ العلماء: أنَّ صيامَ أهلِ الكتاب كان بالرُّؤية لا بالحساب، بدليل قوله: {كَمَا} ولكنَّ أهل الكتاب غَيَّروا وبدَّلوا بعد ذلك.
2- محبَّة الله لهذه الفريضة وإلا لمَّا شرعها في جميع الأمم.
5- {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لعلَّ -هنا- للتَّعليل، أي: كي تتَّقوا، وهنا قاعدةٌ مفيدةٌ، وهي: أنَّ (لعلَّ) إذا جاءت بعد الأمر فهي للتَّعليل، كقوله تعالى -بعد ذلك-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة: 186].
6- رمضانُ مدرسةُ التَّقوى.. تأمَّل كيف ذُكرت التَّقوى في أوَّل آيةٍ وأخر آيةٍ من آيات الصيام؛ ذلك أنَّ الصيام من أعظم ما يُعزِّز التَّقوى في النُّفوس، فلنُفتِّش عن أثر الصِّيام على تقوانا لربِّنا في أسماعنا وأبصارنا وكلامنا، لنحقِّق الغاية: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
7- {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} وإنَّما عَبّر عن رمضان بأيَّامٍ -وهي جمع قِلّة- ووُصِف بمعدودات -وهي جمع قلَّة أيضًا-؛ تهوينًا لأمره على المكلفين؛ لأنَّ الشَّيء القليل يُعَدُّ عَدًّا؛ والكثير لا يُعَدّ.
8- وصف -سبحانه- رمضان فقال: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} كنايةً عن قلَّة أيَّامه ويُسْرها، فالمغبون من فرط في تلك الأيام دون جِدٍّ أو تحصيلٍ، وسيُدرِك غبنَه حين يقول: {يَا حَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّـهِ} [الزُّمر: 56] و{ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التَّغابن: 9]!
9- {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} دليلٌ على أنَّه يَقضي عددَ أيَّامِ رمضان كاملًا كان أو ناقصًا، وعلى أنَّه يجوز أن يَقضي أيَّامًا قصيرةً باردةً عن أيَّامٍ طويلةٍ حارةٍ كالعكس.
10- العبادات الَّتي كان نبيُّنا يحرص عليها في رمضان؛ كلُّها مذكورة في آيات الصِّيام في سورة البقرة (183-187): الصَّدقة {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، تلاوة القرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، الدُّعاء {فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، والاعتكاف{وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}، والتَّكبير للعيد {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ}.
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
1- {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ}، من فضائل شهر الصِّيام أنَّ الله -تعالى- مدحه من بين سائر الشُّهور، بأن اختاره لإنزال القرآن العظيم فيه، واختصَّه بذلك، ثمَّ مدح هذا القرآن الَّذي أنزله الله فقال: {هُدًى} لقلوب من آمن به،(وَبَيِّنَاتٍ) لمن تدبَّرها على صحَّة ما جاء به، ومُفرِّقًا بين الحقِّ والباطل والحلال والحرام.
2- {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} نزول القرآن في هذا الشَّهر سابقٌ على فرض الصِّيام فيه، فهو شهر قرآن قبل أن يكون شهر صيامٍ، فاجتمعت ميزتان، وقد فقه السَّلف هذا، فصاموه، وعمروا ليله ونهاره بالقرآن تلاوةً وتدبُّرًا، تحقيقًا للاسم والمسمَّى، وتركوا ما سواه.
3- {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} الصِّيام له ارتباطٌ بالقرآن، من جهة أنَّه سببٌ لارتفاع القلب من الاتصال بالعلائق البشريَّة، إلى التَّعلُّق بالله -تعالى-، كما أنَّ الصِّيام سببٌ لصفاء الفكر ورقَّة القلب الَّتي هي سبب الانتفاع بالقرآن.
4- وصف الله شهر رمضان بأنَّه: {الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} لتتأكد العناية به فيه، فلنشتغل بالقرآن: نقرأه وحدنا ومع أهلنا، ونملأ به وقتنا، منتفعين بالتَّقنيَّة الحديثة من إذاعاتٍ وقنواتٍ وعَبْر ملفات حاسوبٍ وجوالٍ، ويتهادى المسلم مع إخوانه المقاطع المؤثرة والتَّلاوات المرَّقِّقة، ليكون شهر القرآن!
5- انظر: لما شَرَع الله الصومَ بغير بدلٍ -مع ما فيه من المشقَّة المعروفة- قال بعدها: {يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} فاليُسر هو ما جاء عن الله -تعالى-، لا أن يكونَ التَّيسير شماعةً تُغَيَّر بها شرائع الصَّوم والحجّ والأعياد.
6- أنزل القرآن ليكون هدًى، ولذلك ذكرت الهداية في (الفاتحة) وفي أوَّل البقرة {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، وتلاوة القرآن إذا خلت من هذا المعنى فَقَدتْ أعظم مقاصدها، فعلى التَّالي للقرآن أن يستحضرَ قصدَ الاهتداء بكتاب الله والاستضاءة بنوره، والاستشفاء من أدوائه بكلام ربِّه، ولا يقتصر على مجرد تلاوة الحروف: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ}.
7- الصِّيام سببٌ لارتفاع القلب من الاتصال بالعلائق البشريَّةِ إلى الاتصالِ والتَّعلُّق بالعلائق السَّماويَّة الَّتي نزل منها القرآن، ففيه اتصالٌ مباشرٌ بجهة نزول القرآن. وبهذا يلتقيان من هذا الوجه.
8- {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الهداية تشمل: هدايةَ العلم، وهدايةَ العمل، فمن صام رمضان وأكملَه، فقد منَّ الله عليه بهاتين الهدايتين، وشكرُه -سبحانه- على أربعة أمور: إرادةِ الله بنا اليُسْر، وعدمِ إرادته العسر، وإكمالِ العدَّة، والتَّكبيرِ على ما هدانا، فهذه كلُّها نِعَمٌ تحتاج منَّا أن نشكرَ اللهَ بفعلِ أوامره، واجتنابِ نواهيه.
9- {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ} وإذا كان التَّكليفُ شاقًّا ناسب أن يُعقّب بترجِّي التَّقوى، وإذا كان تيسيرًا ورُخصةً ناسب أن يعقّب بترجِّي الشُّكر، فلذلك خُتمتْ هذه الآية بقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لأنَّ قبله ترخيص للمريض والمسافر بالفطر.
10- تكبيرُ الله على هدايته جاء في ثنايا آيات الصِّيام: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ} وفي ثنايا آيات الحجِّ: {لِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ} [الحجّ: 37]، فإذا أردت أن تعرفَ موقع هاتين الآيتين الكريمتين، فيكفي أن تتذكر أنَّ هناك 5 مليارات من البشر محرومون من هذه الهداية! فلِمَن المنّة؟ {بَلِ اللَّـهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].
11- قال ابنُ عباس: "حقٌّ على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يُكبّروا الله حتَّى يفرغوا من عيدهم؛ لأنَّ الله -تعالى- ذكره يقول: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ}. فليكن التَّكبير شعارًا يملأ المساجد والبيوت والأسواق".
12- {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قد يقول قائل: في الصَّوم مشقّةٌ وتعبٌ، فكيف يؤمر العبد بالشُّكر؟ فيقال: من نظر في الثَّمرات العظيمة الَّتي ترتَّبت على هذه الفريضة: من حلاوةِ المناجاة، وتلاوةِ القرآن، وأنواعِ الإحسان الَّتي وُفِّق لها العبد، ومواهبِ الرَّحمن، والعتقِ منَ النَّار، عَرَف أنَّ الله وحده يستحق الشُّكر على واسع فضله، وعظيم نعمائه.
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
1- {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}، {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [هود: 61]، ما أقرب الله! ليس بيننا وبينه أحد، لا مواعيد تلاحق، ولا طوابير تنتظر، ولا سكك تقطع؛ قيل للإمام أحمد -رحمه الله-: كم بيننا وبين عرشِ الرَّحمن؟ قال: "دعوةٌ صادقةٌ من قلبٍ صادقٍ".
2- {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} كان خالد الرّبعي يقول: "عجبتُ لهذه الأمَّة! أَمرَهم بالدُّعاء ووعدهم بالإجابة، وليس بينهما شرطٌ"! فسُئل عن هذا؟ فقال: مثل قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 25]، فها هنا شرطٌ (أي البشارة مشروطةٌ بالإيمان والعمل الصَّالح)، وقوله: {فَادْعُوا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14] فها هنا شرطٌ، وأمَّا قوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ليس فيه شرطٌ.
3- قال بعض السَّلف: "متى أَطْلق الله لسانَك بالدُّعاءِ والطَّلبِ فاعلم أنَّه يريد أن يعطيَك؛ وذلك لصدقِ الوعدِ بإجابةِ من دعاه، ألم يقل الله -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}؟".
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّـهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].
1- {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ} في الآية معنيان لطيفان:
1- التَّكْنِية عما لا يَحْسُن التصريح به. 2- عُدِّي الرفثُ بـ(إلى) مع أنَّه لا يُقال: رَفَثْتُ إلى النِّساء، ولكنّه جِيء به محمولًا على الإفضاء الَّذي يراد به الملابسة.
2- {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}، {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا}، {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا}، تأمَّل هذه الآيات، تجد الرابط بينها (السِّتر)، والمشترك بين الثِّياب حُسْنُ سترِها، فهل يُدرك الزَّوجان أنَّه عندما يتحدَّث أحدُهما بعيوب شريك حياته ويَكشف أسرارَه قد أصبح كالثَّوب المخرق، قبيح المنظر، فاضح المخبر.
3- تأمَّل قوله -تعالى-: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} وما فيها من تربية الذَّوق والأدب في الكلام، إضافةً إلى ما في اللباس من دلالة (السِّتر، والحماية، والجمال، والقرب).. وهل أحدُ الزَّوجين للآخر إلا كذلك؟ وإن كانت المرأة في ذلك أظهر أثرًا كما يُشير إلى ذلك البدء بضميرها {هُنَّ}.
4- {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} هل يَستغني أحدٌ عن اللباس؟ فكيف يستغني عنِ الزَّواج ويؤخَّرُه بلا سببٍ مُعتبرٍ؟ اللباسُ يسترُ العورات، فلِمَ يَفضحُ البعضُ شريكَ عمره وقد خُلِق لستره؟
اللباسُ شِعارٌ ودثار، فكيف تصفو الحياةُ الزَّوجيَّة مع النُّفور والجفاء؟
اللباسُ من أجمل ما نتزيَّن به، فمتى يكونُ الزَّوجان أحدُهما جَمالٌ للآخر؟
اللباسُ وقاية من البَرْد والحرِّ، فهل كلٌّ منا يشعر أنَّه وقايةٌ وحمايةٌ وأمانٌ لشريك حياته؟ فما أعظمه من كتاب!
5- {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} في تجويز المباشرة إلى الصَّبح دلالةٌ على جواز تأخير الغسل إليه، وصحَّةُ صومِ المُصْبِح جُنُبًا.
6- {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَكُمْ} أي: اقصدوا في مباشرتكم لزوجاتكم التَّقرّبَ إلى الله بذلك، وابتغوا أيضًا ليلة القدر، فإياكم أن تشتغلوا بهذه اللذَّة وتوابعها وتضيعوا ليلة القدر -وهي ممَّا كتبه الله لهذه الأمَّة- وفيها من الخير العظيم ما يعد تفويته من أعظم الخسران، فاللذَّة مُدْرَكة، وليلةُ القدْر إذا فاتتْ لم تُدْرك، ولم يُعوِّض عنها شيءٌ.
7- {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} هذا غايةٌ للأكل والشُّرب والجماع، وفيه أنَّه إذا أكل ونحوه شاكًّا في طلوع الفجر فلا بأس عليه، وفيه دليلٌ على استحباب السُّحور، وأنَّه يستحبُّ تأخيره؛ أخذًا من معنى رخصة الله وتسهيله على العباد.
8- {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} في إباحته -تعالى- جواز الأكل إلى طلوع الفجر دليلٌ على استحباب السُّحور؛ لأنَّه من باب الرُّخصة والأخذ بها محبوبٌ، ولهذا وردت السُّنَّة الثَّابتة بالحثِّ عليه.
9- قال -تعالى-: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} استدلَّ العلماء بقوله: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} على أنَّ الاعتكاف لا يصح إلا في المسجد، ووجه الدِّلالة: كأنّ الأمرَ مُستقِرٌّ ومفروغٌ منه أنّ الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد، وقد حكى القرطبي وغيره الإجماعَ على ذلك.
10- للمعتكف التَّنقل في أنحاء المسجد، لعموم: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}، وأمَّا الخروج منه فهو أقسام: 1- لأمرٍ منافٍ للاعتكاف كالوطء والبيع فإنَّه يبطل.
2- لأمر معتادٍ لا بد منه كالخلاء، وأكل لا يأتي به أحد، واغتسال لإزالة رائحة فجائز.
3- لأمر لا ينافي الاعتكاف، لكن ليس لازمًا، كتشييع جنازة وزيارة قريب، فلا يفعل، وبعضهم يجيز ذلك باشتراطه.
11- {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} ليس المراد النَّهي عن مباشرتهنَّ في المساجد؛ فذلك ممنوعٌ منه حتَّى في غير الاعتكاف، وإنَّما نزلت في أقوام يخرجون لحاجتهم في بيوتهم، فرُبّما جامَعَ أحدُهم أهلَه، فنُهوا عن ذلك، فتأمَّل كيف أفادت الآية حكمين بجملةٍ مختصرة:ٍ اشتراط المسجد في الاعتكاف، والنَّهي عن المباشرة أثنائه.
12- {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} لقد جعل الإسلام هذه العزلة في إطار المسجد، فلم يسمح بانقطاع في غارٍ أو في غابةٍ، وذلك حتَّى لا نُنْهي صلةَ المسلم بالجماعة.
13- لمَّا ذكر الله -تعالى- المنهياتِ في الصِّيام والاعتكاف أعقبها بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} و(لا تقربوها) أبلغ من: (لا تفعلوها)؛ لأنَّ القُربانَ يَشملُ النَّهي عن فعل المُحَرَّم بنفسه، والنَّهي عن وسائله الموصلة إليه.
14- {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} إنَّ العلمَ الصَّحيحَ سببٌ للتقوى؛ لأنَّهم إذا بان لهم الحقُّ اتبعوه، وإذا بان لهم الباطل اجتنبوه، ومن علم الحقَّ فتركه، والباطل فاتبعه، كان أعظمَ لجرمه، وأشدَّ لإثمه.
{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].
15- لما انقضت آيات الصِّيام أعقبها الله بالنَّهي عن أكل أموال النَّاس بالباطل؛ لأنَّه مُحرَّمٌ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، بخلاف الطَّعام والشَّراب فكأنه يُقال للصَّائم: يا من أطعتَ ربَّك وتركتَ الطَّعامَ والشَّرابَ الَّذي حُرِّمَ عليك في النَّهار فقط، فامتثل أمرَ ربِّك في اجتناب أكل الأموال بالباطل، فإنَّه محرمٌ بكلِّ حالٍ، ولا يُباح في وقتٍ من الأوقات.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189].
1- {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} قال قتادة: "سألوا نبيَّ الله -صلَّ الله عليه وسلَّم-: لم جُعِلتْ هذه الأهلة؟ فأنزل الله فيها ما تسمعون، فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم، ولمناسكهم وحجِّهم، ولعِدَّةِ نسائهم ومحلِّ دينهم في أشياء، والله أعلم بما يُصلح خلقَه".
2- في قوله: {لِلنَّاسِ} إشارةٌ إلى كون الرُّؤية ميقاتًا للنَّاس كلِّهم، فما كان رؤية في عهد النُّبوَّة فهو المعتبر بعده.
رمضانُ مدرسةُ التقوى .. تأمل كيف ذُكرت التقوى في أول آية وأخر آية من آيات الصيام؛ ذلك أنّ الصيام من أعظم ما يُعزِّز التقوى في
النفوس، فلنُفتّش عن أثر الصيام على تقوانا لربنا في أسماعنا وأبصارنا وكلامنا، لنحقق الغاية: (لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ).
لتحميل المطوية
التحميل |
مقدِّمة
- منَ التَّطبيق العملي الَّذي كان يُمارسه النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- لقوله -تعالى-: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223]، أنَّه كان يُبشّر أصحابَه برمضان، ويقول: «إذا دخَل رمضانُ فُتِّحَتْ أبوابُ الجنَّةِ وغُلِّقَتْ أبوابُ جهنَّمَ، وسُلسِلَتِ الشياطينُ» [متَّفقٌ عليه واللفظ للبخاري 3277].
- من هدي السَّلف مع القرآن في رمضان: كان ابنُ مسعود يختمُ في رمضان في ثلاثٍ، وفي غير رمضان من الجمعة للجمعة. قالابن باز: "وهذا هو الموافق للسُّنَّة، وهو أدعى للتَّدبُّر والتفكُّر".
- ورد الصومُ في القرآن كفارةً لعدد منَ الذُّنوب العظيمة، وعند التَّأمُّل تجد أنَّ من أبرز أسباب وقوعِها ضعفُ الإرادة، والصَّومُ من أعظم وسائل تقويتِها وتوجيهِها. فهل نستثمر هذه الشَّعيرة لتهذيب هذه الملكة وبنائها ابتداء قبل أن يكون الصَّوم كفارةً وجزاءً؟
تأمُّلاتٌ في آيات الصِّيام
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿183﴾ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 183-184].
1- تأمَّل كم في آية الصيام من ترغيبٍ في الصَّوم، بدأها بالنِّداء المُحَبَّب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، وبيَّن أنَّه فريضةٌ لا مندوحة في تركه{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، وأنَّه ليس خاصًّا بنا بل هو للأمم كلّها {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} وبيَّن ثمرتَه {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقلَّله{أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ}.
2- الصِّيام كان في الأمم السَّابقة {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}، والاعتكاف والقيام كذلك: {وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، وفي هذا إلهابٌ لعزائم هذه الأمَّة ألّا تُقصِّر عمَّن قبلها في تلك العبادات، فإنَّا الآخرون السَّابقون.
3- إذا تأمَّلت في قوله -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وكيف تلقَّى المسلمون هذه الفريضة بالقبول التَّامِّ، وقارنته بتردُّدِ وتباطؤِ بني إسرائيل في ذبح بقرةٍ فقط! عَلِمْتَ شرفَ هذه الأمَّةِ على سائر الأمم.
4- {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}:
1- استنبط منها بعضُ العلماء: أنَّ صيامَ أهلِ الكتاب كان بالرُّؤية لا بالحساب، بدليل قوله: {كَمَا} ولكنَّ أهل الكتاب غَيَّروا وبدَّلوا بعد ذلك.
2- محبَّة الله لهذه الفريضة وإلا لمَّا شرعها في جميع الأمم.
5- {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لعلَّ -هنا- للتَّعليل، أي: كي تتَّقوا، وهنا قاعدةٌ مفيدةٌ، وهي: أنَّ (لعلَّ) إذا جاءت بعد الأمر فهي للتَّعليل، كقوله تعالى -بعد ذلك-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة: 186].
6- رمضانُ مدرسةُ التَّقوى.. تأمَّل كيف ذُكرت التَّقوى في أوَّل آيةٍ وأخر آيةٍ من آيات الصيام؛ ذلك أنَّ الصيام من أعظم ما يُعزِّز التَّقوى في النُّفوس، فلنُفتِّش عن أثر الصِّيام على تقوانا لربِّنا في أسماعنا وأبصارنا وكلامنا، لنحقِّق الغاية: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
7- {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} وإنَّما عَبّر عن رمضان بأيَّامٍ -وهي جمع قِلّة- ووُصِف بمعدودات -وهي جمع قلَّة أيضًا-؛ تهوينًا لأمره على المكلفين؛ لأنَّ الشَّيء القليل يُعَدُّ عَدًّا؛ والكثير لا يُعَدّ.
8- وصف -سبحانه- رمضان فقال: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} كنايةً عن قلَّة أيَّامه ويُسْرها، فالمغبون من فرط في تلك الأيام دون جِدٍّ أو تحصيلٍ، وسيُدرِك غبنَه حين يقول: {يَا حَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّـهِ} [الزُّمر: 56] و{ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التَّغابن: 9]!
9- {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} دليلٌ على أنَّه يَقضي عددَ أيَّامِ رمضان كاملًا كان أو ناقصًا، وعلى أنَّه يجوز أن يَقضي أيَّامًا قصيرةً باردةً عن أيَّامٍ طويلةٍ حارةٍ كالعكس.
10- العبادات الَّتي كان نبيُّنا يحرص عليها في رمضان؛ كلُّها مذكورة في آيات الصِّيام في سورة البقرة (183-187): الصَّدقة {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، تلاوة القرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، الدُّعاء {فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، والاعتكاف{وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}، والتَّكبير للعيد {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ}.
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
1- {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ}، من فضائل شهر الصِّيام أنَّ الله -تعالى- مدحه من بين سائر الشُّهور، بأن اختاره لإنزال القرآن العظيم فيه، واختصَّه بذلك، ثمَّ مدح هذا القرآن الَّذي أنزله الله فقال: {هُدًى} لقلوب من آمن به،(وَبَيِّنَاتٍ) لمن تدبَّرها على صحَّة ما جاء به، ومُفرِّقًا بين الحقِّ والباطل والحلال والحرام.
2- {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} نزول القرآن في هذا الشَّهر سابقٌ على فرض الصِّيام فيه، فهو شهر قرآن قبل أن يكون شهر صيامٍ، فاجتمعت ميزتان، وقد فقه السَّلف هذا، فصاموه، وعمروا ليله ونهاره بالقرآن تلاوةً وتدبُّرًا، تحقيقًا للاسم والمسمَّى، وتركوا ما سواه.
3- {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} الصِّيام له ارتباطٌ بالقرآن، من جهة أنَّه سببٌ لارتفاع القلب من الاتصال بالعلائق البشريَّة، إلى التَّعلُّق بالله -تعالى-، كما أنَّ الصِّيام سببٌ لصفاء الفكر ورقَّة القلب الَّتي هي سبب الانتفاع بالقرآن.
4- وصف الله شهر رمضان بأنَّه: {الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} لتتأكد العناية به فيه، فلنشتغل بالقرآن: نقرأه وحدنا ومع أهلنا، ونملأ به وقتنا، منتفعين بالتَّقنيَّة الحديثة من إذاعاتٍ وقنواتٍ وعَبْر ملفات حاسوبٍ وجوالٍ، ويتهادى المسلم مع إخوانه المقاطع المؤثرة والتَّلاوات المرَّقِّقة، ليكون شهر القرآن!
5- انظر: لما شَرَع الله الصومَ بغير بدلٍ -مع ما فيه من المشقَّة المعروفة- قال بعدها: {يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} فاليُسر هو ما جاء عن الله -تعالى-، لا أن يكونَ التَّيسير شماعةً تُغَيَّر بها شرائع الصَّوم والحجّ والأعياد.
6- أنزل القرآن ليكون هدًى، ولذلك ذكرت الهداية في (الفاتحة) وفي أوَّل البقرة {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، وتلاوة القرآن إذا خلت من هذا المعنى فَقَدتْ أعظم مقاصدها، فعلى التَّالي للقرآن أن يستحضرَ قصدَ الاهتداء بكتاب الله والاستضاءة بنوره، والاستشفاء من أدوائه بكلام ربِّه، ولا يقتصر على مجرد تلاوة الحروف: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ}.
7- الصِّيام سببٌ لارتفاع القلب من الاتصال بالعلائق البشريَّةِ إلى الاتصالِ والتَّعلُّق بالعلائق السَّماويَّة الَّتي نزل منها القرآن، ففيه اتصالٌ مباشرٌ بجهة نزول القرآن. وبهذا يلتقيان من هذا الوجه.
8- {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الهداية تشمل: هدايةَ العلم، وهدايةَ العمل، فمن صام رمضان وأكملَه، فقد منَّ الله عليه بهاتين الهدايتين، وشكرُه -سبحانه- على أربعة أمور: إرادةِ الله بنا اليُسْر، وعدمِ إرادته العسر، وإكمالِ العدَّة، والتَّكبيرِ على ما هدانا، فهذه كلُّها نِعَمٌ تحتاج منَّا أن نشكرَ اللهَ بفعلِ أوامره، واجتنابِ نواهيه.
9- {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ} وإذا كان التَّكليفُ شاقًّا ناسب أن يُعقّب بترجِّي التَّقوى، وإذا كان تيسيرًا ورُخصةً ناسب أن يعقّب بترجِّي الشُّكر، فلذلك خُتمتْ هذه الآية بقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لأنَّ قبله ترخيص للمريض والمسافر بالفطر.
10- تكبيرُ الله على هدايته جاء في ثنايا آيات الصِّيام: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ} وفي ثنايا آيات الحجِّ: {لِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ} [الحجّ: 37]، فإذا أردت أن تعرفَ موقع هاتين الآيتين الكريمتين، فيكفي أن تتذكر أنَّ هناك 5 مليارات من البشر محرومون من هذه الهداية! فلِمَن المنّة؟ {بَلِ اللَّـهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].
11- قال ابنُ عباس: "حقٌّ على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يُكبّروا الله حتَّى يفرغوا من عيدهم؛ لأنَّ الله -تعالى- ذكره يقول: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ}. فليكن التَّكبير شعارًا يملأ المساجد والبيوت والأسواق".
12- {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قد يقول قائل: في الصَّوم مشقّةٌ وتعبٌ، فكيف يؤمر العبد بالشُّكر؟ فيقال: من نظر في الثَّمرات العظيمة الَّتي ترتَّبت على هذه الفريضة: من حلاوةِ المناجاة، وتلاوةِ القرآن، وأنواعِ الإحسان الَّتي وُفِّق لها العبد، ومواهبِ الرَّحمن، والعتقِ منَ النَّار، عَرَف أنَّ الله وحده يستحق الشُّكر على واسع فضله، وعظيم نعمائه.
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
1- {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}، {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [هود: 61]، ما أقرب الله! ليس بيننا وبينه أحد، لا مواعيد تلاحق، ولا طوابير تنتظر، ولا سكك تقطع؛ قيل للإمام أحمد -رحمه الله-: كم بيننا وبين عرشِ الرَّحمن؟ قال: "دعوةٌ صادقةٌ من قلبٍ صادقٍ".
2- {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} كان خالد الرّبعي يقول: "عجبتُ لهذه الأمَّة! أَمرَهم بالدُّعاء ووعدهم بالإجابة، وليس بينهما شرطٌ"! فسُئل عن هذا؟ فقال: مثل قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 25]، فها هنا شرطٌ (أي البشارة مشروطةٌ بالإيمان والعمل الصَّالح)، وقوله: {فَادْعُوا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14] فها هنا شرطٌ، وأمَّا قوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ليس فيه شرطٌ.
3- قال بعض السَّلف: "متى أَطْلق الله لسانَك بالدُّعاءِ والطَّلبِ فاعلم أنَّه يريد أن يعطيَك؛ وذلك لصدقِ الوعدِ بإجابةِ من دعاه، ألم يقل الله -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}؟".
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّـهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].
1- {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ} في الآية معنيان لطيفان:
1- التَّكْنِية عما لا يَحْسُن التصريح به. 2- عُدِّي الرفثُ بـ(إلى) مع أنَّه لا يُقال: رَفَثْتُ إلى النِّساء، ولكنّه جِيء به محمولًا على الإفضاء الَّذي يراد به الملابسة.
2- {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}، {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا}، {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا}، تأمَّل هذه الآيات، تجد الرابط بينها (السِّتر)، والمشترك بين الثِّياب حُسْنُ سترِها، فهل يُدرك الزَّوجان أنَّه عندما يتحدَّث أحدُهما بعيوب شريك حياته ويَكشف أسرارَه قد أصبح كالثَّوب المخرق، قبيح المنظر، فاضح المخبر.
3- تأمَّل قوله -تعالى-: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} وما فيها من تربية الذَّوق والأدب في الكلام، إضافةً إلى ما في اللباس من دلالة (السِّتر، والحماية، والجمال، والقرب).. وهل أحدُ الزَّوجين للآخر إلا كذلك؟ وإن كانت المرأة في ذلك أظهر أثرًا كما يُشير إلى ذلك البدء بضميرها {هُنَّ}.
4- {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} هل يَستغني أحدٌ عن اللباس؟ فكيف يستغني عنِ الزَّواج ويؤخَّرُه بلا سببٍ مُعتبرٍ؟ اللباسُ يسترُ العورات، فلِمَ يَفضحُ البعضُ شريكَ عمره وقد خُلِق لستره؟
اللباسُ شِعارٌ ودثار، فكيف تصفو الحياةُ الزَّوجيَّة مع النُّفور والجفاء؟
اللباسُ من أجمل ما نتزيَّن به، فمتى يكونُ الزَّوجان أحدُهما جَمالٌ للآخر؟
اللباسُ وقاية من البَرْد والحرِّ، فهل كلٌّ منا يشعر أنَّه وقايةٌ وحمايةٌ وأمانٌ لشريك حياته؟ فما أعظمه من كتاب!
5- {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} في تجويز المباشرة إلى الصَّبح دلالةٌ على جواز تأخير الغسل إليه، وصحَّةُ صومِ المُصْبِح جُنُبًا.
6- {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَكُمْ} أي: اقصدوا في مباشرتكم لزوجاتكم التَّقرّبَ إلى الله بذلك، وابتغوا أيضًا ليلة القدر، فإياكم أن تشتغلوا بهذه اللذَّة وتوابعها وتضيعوا ليلة القدر -وهي ممَّا كتبه الله لهذه الأمَّة- وفيها من الخير العظيم ما يعد تفويته من أعظم الخسران، فاللذَّة مُدْرَكة، وليلةُ القدْر إذا فاتتْ لم تُدْرك، ولم يُعوِّض عنها شيءٌ.
7- {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} هذا غايةٌ للأكل والشُّرب والجماع، وفيه أنَّه إذا أكل ونحوه شاكًّا في طلوع الفجر فلا بأس عليه، وفيه دليلٌ على استحباب السُّحور، وأنَّه يستحبُّ تأخيره؛ أخذًا من معنى رخصة الله وتسهيله على العباد.
8- {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} في إباحته -تعالى- جواز الأكل إلى طلوع الفجر دليلٌ على استحباب السُّحور؛ لأنَّه من باب الرُّخصة والأخذ بها محبوبٌ، ولهذا وردت السُّنَّة الثَّابتة بالحثِّ عليه.
9- قال -تعالى-: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} استدلَّ العلماء بقوله: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} على أنَّ الاعتكاف لا يصح إلا في المسجد، ووجه الدِّلالة: كأنّ الأمرَ مُستقِرٌّ ومفروغٌ منه أنّ الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد، وقد حكى القرطبي وغيره الإجماعَ على ذلك.
10- للمعتكف التَّنقل في أنحاء المسجد، لعموم: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}، وأمَّا الخروج منه فهو أقسام: 1- لأمرٍ منافٍ للاعتكاف كالوطء والبيع فإنَّه يبطل.
2- لأمر معتادٍ لا بد منه كالخلاء، وأكل لا يأتي به أحد، واغتسال لإزالة رائحة فجائز.
3- لأمر لا ينافي الاعتكاف، لكن ليس لازمًا، كتشييع جنازة وزيارة قريب، فلا يفعل، وبعضهم يجيز ذلك باشتراطه.
11- {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} ليس المراد النَّهي عن مباشرتهنَّ في المساجد؛ فذلك ممنوعٌ منه حتَّى في غير الاعتكاف، وإنَّما نزلت في أقوام يخرجون لحاجتهم في بيوتهم، فرُبّما جامَعَ أحدُهم أهلَه، فنُهوا عن ذلك، فتأمَّل كيف أفادت الآية حكمين بجملةٍ مختصرة:ٍ اشتراط المسجد في الاعتكاف، والنَّهي عن المباشرة أثنائه.
12- {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} لقد جعل الإسلام هذه العزلة في إطار المسجد، فلم يسمح بانقطاع في غارٍ أو في غابةٍ، وذلك حتَّى لا نُنْهي صلةَ المسلم بالجماعة.
13- لمَّا ذكر الله -تعالى- المنهياتِ في الصِّيام والاعتكاف أعقبها بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} و(لا تقربوها) أبلغ من: (لا تفعلوها)؛ لأنَّ القُربانَ يَشملُ النَّهي عن فعل المُحَرَّم بنفسه، والنَّهي عن وسائله الموصلة إليه.
14- {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} إنَّ العلمَ الصَّحيحَ سببٌ للتقوى؛ لأنَّهم إذا بان لهم الحقُّ اتبعوه، وإذا بان لهم الباطل اجتنبوه، ومن علم الحقَّ فتركه، والباطل فاتبعه، كان أعظمَ لجرمه، وأشدَّ لإثمه.
{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].
15- لما انقضت آيات الصِّيام أعقبها الله بالنَّهي عن أكل أموال النَّاس بالباطل؛ لأنَّه مُحرَّمٌ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، بخلاف الطَّعام والشَّراب فكأنه يُقال للصَّائم: يا من أطعتَ ربَّك وتركتَ الطَّعامَ والشَّرابَ الَّذي حُرِّمَ عليك في النَّهار فقط، فامتثل أمرَ ربِّك في اجتناب أكل الأموال بالباطل، فإنَّه محرمٌ بكلِّ حالٍ، ولا يُباح في وقتٍ من الأوقات.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189].
1- {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} قال قتادة: "سألوا نبيَّ الله -صلَّ الله عليه وسلَّم-: لم جُعِلتْ هذه الأهلة؟ فأنزل الله فيها ما تسمعون، فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم، ولمناسكهم وحجِّهم، ولعِدَّةِ نسائهم ومحلِّ دينهم في أشياء، والله أعلم بما يُصلح خلقَه".
2- في قوله: {لِلنَّاسِ} إشارةٌ إلى كون الرُّؤية ميقاتًا للنَّاس كلِّهم، فما كان رؤية في عهد النُّبوَّة فهو المعتبر بعده.
أخي في الله : تعليقك يهمني جدا ويزيد من عزيمتي لتقديم المزيد فأرجو كتابة رأيك
اذا استفدت فشارك الموضوع