الحمد لله الذي تفرَّد بالبقاء والكمال، وقَسَّم بين عباده
الأرزاقَ والآجال، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، شهادة
تُنجي قائلَها يومَ البعث والنُّشور، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله
صلَّى الله عليه وسلَّم وعلى آله وصحبه صلاة تضاعف لصاحبها الأجور.
أما بعد:
فإنَّ خير الزاد لسفر الآخرة تقوى المولى جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
إخوة الإسلام: صعد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم جبلَ أُحد، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فرجف بهم، فضربه برجله، وقال: «اثبُت أحد، فما عليك إلاَّ نبي، أو صديق، أو شهيدان» (أخرجه البخاري).
وسنقف هذا اليومَ مع قصةٍ لها في تاريخ المسلمين أثر وعبرة:
إنَّها قصة استشهاد الفاروق رضي الله عنه لقد خطب الفاروقُ الناسَ يومَ الجمعة، فقال: "إنِّي رأيتُ ديكًا نقرني ثلاثَ نقرات، وما أراه إلاَّ حضور أجلي" (أخرجه مسلم)، ولم يمضِ بعدها إلا جمعة واحدة حتى قُتِلَ رضي الله عنه وقصة استشهاده أخرجها البخاري وغيره.
ووقت وقوع هذه القصة صلاة الفجر.
كان الفاروق رضي الله عنه إذا مرَّ بين الصفَّين، قال: "استووا"، حتى إذا لم يرَ فيهم خللاً، تقدَّم فكبَّر، وربَّما قرأ سورةَ يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى؛ حتى يجتمع الناس، فما هو إلاَّ أن كبَّر، حتى قال: "قتلني الكلب"، حين طعنه أبو لؤلؤة الخبيث الكافر واسمه "فيروز"، طعنه بسكينٍ ذات طرفين ثلاثَ طعنات، إحداهن تحت سُرَّتِه، وقد خرقت صفاقه رضي الله عنه ثم صار هذا الخبيث لا يَمر على أحد يَمينًا ولا شِمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثةَ عشر رجلاً، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجلٌ من المسلمين، طرح عليه بُرْنسًا، فلما ظَنَّ العِلج القاتل أنَّه مأخوذ نَحر نفسه، وتناول عمر يَدَ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، فقَدَّمه؛ ليُكمِل الصلاةَ بالناس، فمن كان قريبًا من عمر، فقد رأى وعَلِمَ الذي حدث، وأمَّا من كان في نواحي المسجد، فإنَّهم لا يدرون، غَيْرَ أنَّهم قد فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله، سبحان الله، فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، قرأ فيها بأقصر سورتين بالكوثر والنصر.
ثم غَلبَ عمر النَّزف حتى غُشِيَ عليه، فحُمل حتى أُدخِل بيته، فلم يزل في غَشْيِه حتى أسفر، فنظر في وجوه مَن عنده فقال: "أصلَّى الناس؟"، فقالوا: نعم، قال: "لا إسلامَ لِمَن تركَ الصلاة"، فتوضأ وصلى، فقرأ في الأولى {وَالْعَصْرِ}، وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، قال ابنه عبد الله رضي الله عنهما: "وتساند إلَيَّ وجُرحه يثغب دمًا، إنِّي لأضع اصبعي الوُسطى، فما تسد الفتق".
وقال الفاروق: "يا ابن عباس، انظر مَن قتلني"، فجال ساعةً ثم جاء، فقال: غلام المغيرة، قال عمر: "الصنع؟"، قال: نعم، قال: "قاتله الله، لقد أمرتُ به معروفًاً، الحمد لله الذي لم يَجعل مِيتتي بيدِ رجل يَدَّعي الإسلام"، وفي رواية: "الحمد لله الذي جعل ميتتي على يدِ رجل لم يسجد لله سجدة".
لقد كان الخبر كالصاعقة على الناس؛ إذ إنَّهم أُصِيبوا بأفضلِ رجل في وقتهم، وأكبر مسئول عندهم، وكأنَّ الناس لم تُصبهم مُصيبة قبل يومئذٍ، فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه، فأُتِيَ عمر رضي الله عنه بنبيذ فشربه -والنبيذ ماء ينقع فيه تمرات لاستعذابه- فلما شرب النبيذ خرج من جوفه، ثم أُتِيَ بلبنٍ فشربه، فخرج من جرحه، فعَلِموا أنَّه ميت، وقال الطبيب: أعهدْ يا أمير المؤمنين.
فدخل الناس، فجعلوا يثنون، وجاء رجلٌ شاب، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صُحبة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقِدَمٌ في الإسلام ما قد عَلِمت، ثم وُلِيتَ فعدلت، ثم شهادة، قال: "وددت أن ذلك كفافٌ لا عَلَيَّ ولا لي"، فلما أدبر إذا إزاره يَمس الأرض، قال: "رُدوا عليَّ الغلام"، قال: "ابن أخي، ارفع ثوبك، فإنَّه أنقى لثوبك، وأتقى لربك"، ثم أمر الفاروق ابنه عبد الله أن يحسب الدَّيْنَ الذي على عمر، فأحصاه فإذا هو ستة وثمانون ألفًا، خليفة المسلمين عليه دين! فأمر أن تُقضى عنه.
وقال عمر لابنه عبد الله رضي الله عنهما: "انطلق إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله، فقل: يُقرِأ عليك عمر السلام، ولا تقل أمير المؤمنين، فإنِّي لستُ اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفَن مع صاحبيه".
فسلَّم واستأذن، ثم دخل عليها، فوجدها قاعدةً تبكي، فقال: "يُقرِأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أنْ يُدفَن مع صاحبيه"، فقالت: "كنت أريده لنفسي، ولأوثرَنَّ به اليومَ على نفسي".
فلما أقبل، قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: "ارفعوني"، فأسنده رجل إليه، فقال: "ما لديك؟"، قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذِنَتْ، قال: "الحمد لله، ما كان من شيءٍ أهم إلَيَّ من ذلك، فإذا أنا قضيت فاحملوني"، ثم سلّم، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي، فأدخلوني، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين -وأمر بذلك خشيةَ أن تكون قد أذنت قبل ذلك حياءً منه- لقد كان الفاروق رضي الله عنه سأل الله، فقال: "اللهم ارزقني شهادةً في سبيلك، واجعل موتي في بلدِ رسولك صلَّى الله عليه وسلَّم".
هذه -عبادَ الله- باختصار قصةُ استشهاده رضي الله عنه وأرضاه بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما صرَّف فيهما من العِبَر والحكمة، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنَّه كان غفارًا.