بسم الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الذي يراك حين تقوم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الذي يراك حين تقوم
في الوقت الذي يريدك أن تعلم أنّه على العرش استوى .. يريدك أن تتيقّن أنّه أقرب إليك من حبل الوريد ..
يسمع كلماتك .. ويرى أفعالك .. ولا تخفى عليه منك خافية ..
يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا بصحابته الكرام رافعي أصواتهم يدعون الله .. فيقول : " أربعوا على أنفسكم .. إنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا .. إنّما تدعون سميعاً بصيراً قريبا " .
بمجرّد أن ينتهي العبد من الدعاء إذ بالإجابة تلوح .. لأنّه قريب بدرجة لا يتصوّرها عقلك ..
تضيع دابّة أحدهم فيمشي مبهوتاً فيراه إبراهيم بن أدهم فيسأله فيقول : ضاعت دابّتي .. فيقف إبراهيم ويقول : يالله .. لن أمشي خطوة حتى تعيد لهذا دابّته .. فإذا بها تظهر من منحنى الطريق ..
أحدهم يدخل المسجد وما زال أثر ماء الوضوء في أذنيه فيتّجه إلى الصف الأول مقابل جهاز التكييف مما يجعل الهواء البارد يدخل إلى أذنيه على أثر الماء .. بعد ساعة يشعر ببداية ألم في أذنه .. لم يفتح شفتيه وإنما قال بقلبه : يالله .. كان ذلك من أجلك .. يالله لم أصل في الصف الأول إلا لأنّك تحب ذلك .. فإذا بالألم يرتفع هكذا بدون مقدّمات وبلا تدرّج !
وأقرب ما تكون إليه وأنت ساجد .. تتمتم بـ سبحان ربي الأعلى .. فإذا بالسماوات تنصت إليك .. وإذا بالجبار يسمعك ..
لا تتوهم أنّه بعيد .. أو أنّه تخفى عليه منك خافية ..
يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الليل .. ويذهب ليطرق باب أبي بن كعب .. فيخرج أُبي .. فإذا برسول الله يخبره : أمرني الله أن أقرأ عليك سورة الفاتحة .. يقول أُبيّ بذهول : وسمّاني ؟ فيقول نعم .. فيبكي أُبيّ ..
قريب من جميع خلقه .. يراهم ويحميهم ..
كيف يكون قيّوما على خلقه لو لم يكن قريبا منهم ؟
كيف يكون ربّا .. إلا وهو قريب ..
يقول عليه الصلاة والسلام عنه سبحانه إنه " أقرب إلى أحدكم من شراك نعله " .. ويقول عن نفسه : " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " ..
وهذا دليل على القرب المتناهي .. قرب علم وقرب سمع وقرب بصر وقرب إحاطة .. لا قرب ذات .. لأنّ ذاته العليّة منزّهة عن مثل هذا القرب ..
ومن قربه أنّه ينزل كما صحّ عن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا فيقول : هل من سائل فأعطيه ، هل من مستغفر فأغفر له .."
ومن قربه أنّه : يسمع دبيب النملة السوداء على الصفاة الصمّاء في الليلة الظلماء ..
يقول تعالى : "و ما تسقط من ورقة إلا يعلمها "
تخيّل عدد الأشجار .. ثم عدد أوراقها .. تخيّلها وهي تتناثر في فصل الخريف .. كلّها يعلمها : يعلم عددها وأشكالها وأنواعها وكل شيء يخصّها ..
يقول الشاعر وهو يصف القرب المتناهي وعلمه سبحانه البالغ الدقة :
يا من يرى مدّ البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليــــــلِ
ويرى مناط عروقها في نحرها والمخ من تلك العظام النُحّــــــــــــــلِ
ويرى خرير الدم في أوداجها متنقلا من مفصل في مفصــــــــــــــلِ
ويرى مكان الوطء من أقدامها في سيرها وحثيثها المستعجلِ
امنن عليّ بتوبة تمحو بها ما كان منّي في الزمــــــــــــــــــــــــــان الأوّلِ
قريب ..
تأتي امرأة تجادل في زوجها .. وعائشة رضي الله عنها في طرف البيت تقول إنها تسمع كلمة وتغيب عنها كلمة .. وبعد ذلك الجدل ينزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم أن " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير"
مدّ يدك الآن .. أمددتها ؟ .. لقد رآها ! .. يجب أن تؤمن بذلك ..
قال لي صديقي مرّة اكتب لي في هذه الورقة كلمة لأقرأها وأنا عائد إلى البيت .. فكتبت له : إنّه يراك الآن .. أخبرني فيما بعد أنّه فُجع بها ..
قربه يخيفك .. يجب أن يخيفك
وقربه يؤنسك .. يجب أن يؤنسك ..
وقربه يدفئك .. يجب أن يدفئك ..
وقربه يجعلك شجاعاً شامخاً بطلاً ..
اسمع إليه وهو يهدّئ من روع موسى عليه السلام عندما أعلن خوفه من الذهاب إلى فرعون فقال له : " إنّني معكما أسمع وأرى" هذا يكفي .. كوني معكما أكبر حماية لكما ..
لأني معكما يجب ألا تخافا من فرعون .. يجب أن تكونا شجاعين بطلين شامخين ..
ومما قُرر في كتب العقيدة أن له معيّتين : معيّة خاصة بأهل ولايته ، وهي معيّة محبّة ونصرة وتوفيق ...، ومعيّة عامّة لجميع خلقه .. وهي معيّة علم وسمع وبصر وإحاطة ..
ومن أجلّ الآيات وأكثرها أنساً في هذا الباب قول الحق : " الذي يراك حين تقوم * وتقلبّك في الساجدين" ..
حين تقوم .. يراك .. في تلك اللحظة السوداء المظلمة التي لا يعلم أحد فيها عنك شيئا ، يبصرك لحظة بلحظة ..
إذا صفعتك المخاوف فتذكر قربه ..
وإذا التأمت حولك الخطوب فشتتها بفكرة أنّه أقرب إليك من حبل الوريد ..
مما يذكر أن أحدهم كان مسافراً في الصحراء فإذا بقاطع طريق حاملا سيفه يريد قتله .. قال له : خذ مالي .. فقال : لا .. أريد أن أقتلك ثم آخذ مالك ..
فاستأذنه بركعتين فأذن له : قال نسيت كل القرآن ولم أذكر إلا : " أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء " رددتها وما أنهيت الصلاة إلا وفارس لا أدري من أين ظهر يضرب ذلك الرجل ضربة بسيفه يطير منها رأسه !
إنّه القريب .. فقط حرّك شفتيك بذكره .. تتفتّح أبواب السماوات لصوتك ..
كان يونس عليه السلام في بطن الحوت ينادي " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" .. فكان الصوت الضعيف المنطلق من الظلمات الثلاث يخترق أجواز الفضاء لتسمعه ملائكة السماوات فيقولون للرب سبحانه : " صوت معروف .. من مكان غير معروف !!" ..
يقول في الحديث القدسي : " من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي .. ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم " لأنّه قريب.. فقط قل يا الله .. يكون الرد بأن يذكر اسمك ..
ما أجلّ أن تتخيّل أن ملك الملوك هذه اللحظة يقول اسمك ! يقول : عبدي فلان بن فلان ذكرني ..
الدنيا كلّها تافهة .. لا تساوي مثل هذا التخيّل ..
وقربه هذا يزيد .. فبالتوبة والإنابة والطاعات تزيد قربا منه يقول في الحديث القدسي : " إذا تقرّب مني شبرا تقرّبت منه ذراعا .. وإذا تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا " ..
فكل محاولة اقتراب منك إليه بالطاعة يعقبها اقتراب منه إليك بالأفضال والنعم والعطايا والهبات ..
ومن معاني قربه أنّه يريك في كل شيء من حولك معنى يذكّرك به ..
فترى حكمته في دقّة تركيب مخلوقاته ..
وترى قدرته في رفع سماواته بلا عمد ..
وترى رحمته في إنزال المطر وإنبات الشجر ..
وترى عظمته في شموخ الجبال ..
وترى عذابه في البراكين والزلازل والكوارث ..
إلهي ..رايتك
إلهي سمعتك
رأيتك في كل شي ..
سمعتك في كل حي ..
تعاليت لم يبد شيء لعيني
تباركت لم ينب صوت بأذني
ولكن طيفاً بقلبي يهل
ومن طيفه كل نور يطلّ
***
يقول تعالى : " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحق"
إذا أبصرت شيئا بعينيك فبصرك يذكرك بالبصير سبحانه
وإذا سمعت همسا في دجى الليالي فسمعك يذكرك بالسميع سبحانه
وإذا علمت شيئا من خفي العلم فعلمك يذكرك بالعليم سبحانه ..
وفي كل شيء له آية تدلّ على أنّه الواحد
قريب لا تحتاج حتى تصل إليه إلاّ أن يخطر ببالك .. أن تشعر بقربه .. أن تحسّ بأنّه يراك .. ثم تقول : يالله ..
" وإذا سألك عبادي عني فإني قريب "
أي شخص يسألك عن الله فأوّل شيء تصف ربّك به هو أنّه قريب منه ! النفوس مفطورة على عدم استعدادها لعبادة رب بعيد .. لا يسمع دعاءها .. ولا يرى حاجاتها .. فمن أهم الصفات التي تبتدر بها الذي يريد التعرّف على الله أن تخبره أن ربّه " قريب" .. هكذا علّمك سبحانه أن تخبر عنه !
وهذا القرب علاوة على أنه يجعلك تحبّه ، وتأنس به ، وتخشاه .. إلا أنه فوق ذلك يجعلك تدمن على استغفاره والتوبة إليه .. فالقريب : من جهة يستحق أن يُستغفر ويتاب إليه لأنّه بقربه اطلع على كل غدراتك وفجراتك .. ومن جهة أخرى فهو قريب قرباً يجعل استغفارك وتوبتك ناجعة ، فلن يغفر لك إلا من سمع استغفارك ولن يتوب عليك إلا من علم توبتك .. فهو القريب المجيب .. وبعد هذا تأمل قوله سبحانه : "فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب "
ومن نوادك التعابير التي تصيبك بالحياء من القريب سبحانه قول أحدهم : " ألا يستحق أن تحبّه ؟ : في اللحظة التي تغلق الباب على نفسك لتعصيه .. يدخل لك الأكسجين من تحت الباب لتتنفس "
وهذا القرب يقابله محاولة تقرّب من العبد إليه سبحانه : "أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب " .. إنّه مضمار المسارعة ، والمسابقة .. والتي لا يكون قصارى رغبة العبد منه أن يكون قريباً بل أن يكون الأقرب !
الله قريب من غزّة
وفي أجواء المحن التي تعيشها الأمة ، ومن بين أدخنة الحروب المهلكة التي تمسّ أفئدة المؤمنين في غزّة وغير غزّة باللأواء ، يحتاج المؤمن هناك إلى ثلاث مستويات معرفية متعلّقة باسم القريب :
الأولى : معرفة قربه سبحانه إيماناً ويقيناً .. ليريح نفسه من عناء الصراخ والاستنجاد بالبشر .. فرب البشر قريب شهيد مطّلع .. فيجد في القرآن آية تقول له بكل وضوح : " إنه سميع قريب " .. فيلقي عند أعتابها حرقات روحه المكلومة .. وكل ما سبق في المقالة يصب في خانة هذا المستوى المهم ..
الثانية : ومن بين لهيب القهر ، ورؤية تفاصيل الشتات ، وتهدّم البيوت ، وموت الأنفس ، وهلاك الثمرات .. يريد رحمة .. يبحث عن رحمة .. يتمنى رحمة تنهي عذابات خذلان الإخوة .. وطعنات الغدر المتوالية ..فيقف عند قول الحق سبحانه :" إن رحمة الله قريب من المحسنين " .. يالله .. إذن ليس بين ذلك المجاهد المغوار الذي نذر روحه للجبار إلا ستار شفيف تلوح من خلفه مخايل الإحسان .. فقط يحتاج أن يجاهد في الأرض بطريقة ملائكية يشعر فيها أنّه يرى الله ! فإن لم يكن يرى الله فإن الله يراه .. فلا يطلق رصاصة إلا ولديه جواب عن لماذا وكيف ومتى أطلقها ! ولا يزال العبد ينتقل من إحسان إلى إحسان .. وتكون في المقابل رحمة الله أقرب إليه من غيره .. حتى تغشاه الرحمة من كل مكان .. تنتزعه من أدخنة الموت إلى سحائب الرضا ..
الثالثة : وتطول الأيام .. وتتوالى الزفرات .. وتشتد البلاءات .. ويُحكم الحصار من كل مكان .. وعند ذلك تطلّ روح المجاهد على آية ثالثة يقول فيها الحق : "ألا إن نصر الله قريب" ..
فكما أنّه قريب سبحانه من عباده .. وكما أن رحمته أيضاً قريبة من المحسنين منهم .. يأتي النصر القريب من جند الله .. " وإن جندنا لهم الغالبون " ..فيربط الله بذلك على قلوب أضناها الانتظار .. وأرهقها الاصطبار ..
وبعد هذه السياحة التفكرية في اسم الله القريب .. أسأل الله أن يجعلنا ممن يستحضر قربه .. ويعمل وفق ما يمليه هذا الاسم الأعظم من معاني الذل والإخبات والمراقبة والخشية .. وطلب الرحمة والنصرة منه وحده ..
هذا وصلَ الله وسلم على سيدنا محمد .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..
علي جابر الفيفي
يسمع كلماتك .. ويرى أفعالك .. ولا تخفى عليه منك خافية ..
يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا بصحابته الكرام رافعي أصواتهم يدعون الله .. فيقول : " أربعوا على أنفسكم .. إنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا .. إنّما تدعون سميعاً بصيراً قريبا " .
بمجرّد أن ينتهي العبد من الدعاء إذ بالإجابة تلوح .. لأنّه قريب بدرجة لا يتصوّرها عقلك ..
تضيع دابّة أحدهم فيمشي مبهوتاً فيراه إبراهيم بن أدهم فيسأله فيقول : ضاعت دابّتي .. فيقف إبراهيم ويقول : يالله .. لن أمشي خطوة حتى تعيد لهذا دابّته .. فإذا بها تظهر من منحنى الطريق ..
أحدهم يدخل المسجد وما زال أثر ماء الوضوء في أذنيه فيتّجه إلى الصف الأول مقابل جهاز التكييف مما يجعل الهواء البارد يدخل إلى أذنيه على أثر الماء .. بعد ساعة يشعر ببداية ألم في أذنه .. لم يفتح شفتيه وإنما قال بقلبه : يالله .. كان ذلك من أجلك .. يالله لم أصل في الصف الأول إلا لأنّك تحب ذلك .. فإذا بالألم يرتفع هكذا بدون مقدّمات وبلا تدرّج !
وأقرب ما تكون إليه وأنت ساجد .. تتمتم بـ سبحان ربي الأعلى .. فإذا بالسماوات تنصت إليك .. وإذا بالجبار يسمعك ..
يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الليل .. ويذهب ليطرق باب أبي بن كعب .. فيخرج أُبي .. فإذا برسول الله يخبره : أمرني الله أن أقرأ عليك سورة الفاتحة .. يقول أُبيّ بذهول : وسمّاني ؟ فيقول نعم .. فيبكي أُبيّ ..
قريب من جميع خلقه .. يراهم ويحميهم ..
كيف يكون قيّوما على خلقه لو لم يكن قريبا منهم ؟
كيف يكون ربّا .. إلا وهو قريب ..
يقول عليه الصلاة والسلام عنه سبحانه إنه " أقرب إلى أحدكم من شراك نعله " .. ويقول عن نفسه : " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " ..
وهذا دليل على القرب المتناهي .. قرب علم وقرب سمع وقرب بصر وقرب إحاطة .. لا قرب ذات .. لأنّ ذاته العليّة منزّهة عن مثل هذا القرب ..
ومن قربه أنّه ينزل كما صحّ عن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا فيقول : هل من سائل فأعطيه ، هل من مستغفر فأغفر له .."
ومن قربه أنّه : يسمع دبيب النملة السوداء على الصفاة الصمّاء في الليلة الظلماء ..
يقول تعالى : "و ما تسقط من ورقة إلا يعلمها "
تخيّل عدد الأشجار .. ثم عدد أوراقها .. تخيّلها وهي تتناثر في فصل الخريف .. كلّها يعلمها : يعلم عددها وأشكالها وأنواعها وكل شيء يخصّها ..
يقول الشاعر وهو يصف القرب المتناهي وعلمه سبحانه البالغ الدقة :
يا من يرى مدّ البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليــــــلِ
ويرى مناط عروقها في نحرها والمخ من تلك العظام النُحّــــــــــــــلِ
ويرى خرير الدم في أوداجها متنقلا من مفصل في مفصــــــــــــــلِ
ويرى مكان الوطء من أقدامها في سيرها وحثيثها المستعجلِ
امنن عليّ بتوبة تمحو بها ما كان منّي في الزمــــــــــــــــــــــــــان الأوّلِ
قريب ..
تأتي امرأة تجادل في زوجها .. وعائشة رضي الله عنها في طرف البيت تقول إنها تسمع كلمة وتغيب عنها كلمة .. وبعد ذلك الجدل ينزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم أن " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير"
مدّ يدك الآن .. أمددتها ؟ .. لقد رآها ! .. يجب أن تؤمن بذلك ..
قال لي صديقي مرّة اكتب لي في هذه الورقة كلمة لأقرأها وأنا عائد إلى البيت .. فكتبت له : إنّه يراك الآن .. أخبرني فيما بعد أنّه فُجع بها ..
قربه يخيفك .. يجب أن يخيفك
وقربه يؤنسك .. يجب أن يؤنسك ..
وقربه يدفئك .. يجب أن يدفئك ..
وقربه يجعلك شجاعاً شامخاً بطلاً ..
اسمع إليه وهو يهدّئ من روع موسى عليه السلام عندما أعلن خوفه من الذهاب إلى فرعون فقال له : " إنّني معكما أسمع وأرى" هذا يكفي .. كوني معكما أكبر حماية لكما ..
لأني معكما يجب ألا تخافا من فرعون .. يجب أن تكونا شجاعين بطلين شامخين ..
ومما قُرر في كتب العقيدة أن له معيّتين : معيّة خاصة بأهل ولايته ، وهي معيّة محبّة ونصرة وتوفيق ...، ومعيّة عامّة لجميع خلقه .. وهي معيّة علم وسمع وبصر وإحاطة ..
ومن أجلّ الآيات وأكثرها أنساً في هذا الباب قول الحق : " الذي يراك حين تقوم * وتقلبّك في الساجدين" ..
حين تقوم .. يراك .. في تلك اللحظة السوداء المظلمة التي لا يعلم أحد فيها عنك شيئا ، يبصرك لحظة بلحظة ..
إذا صفعتك المخاوف فتذكر قربه ..
وإذا التأمت حولك الخطوب فشتتها بفكرة أنّه أقرب إليك من حبل الوريد ..
مما يذكر أن أحدهم كان مسافراً في الصحراء فإذا بقاطع طريق حاملا سيفه يريد قتله .. قال له : خذ مالي .. فقال : لا .. أريد أن أقتلك ثم آخذ مالك ..
فاستأذنه بركعتين فأذن له : قال نسيت كل القرآن ولم أذكر إلا : " أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء " رددتها وما أنهيت الصلاة إلا وفارس لا أدري من أين ظهر يضرب ذلك الرجل ضربة بسيفه يطير منها رأسه !
إنّه القريب .. فقط حرّك شفتيك بذكره .. تتفتّح أبواب السماوات لصوتك ..
كان يونس عليه السلام في بطن الحوت ينادي " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" .. فكان الصوت الضعيف المنطلق من الظلمات الثلاث يخترق أجواز الفضاء لتسمعه ملائكة السماوات فيقولون للرب سبحانه : " صوت معروف .. من مكان غير معروف !!" ..
يقول في الحديث القدسي : " من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي .. ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم " لأنّه قريب.. فقط قل يا الله .. يكون الرد بأن يذكر اسمك ..
ما أجلّ أن تتخيّل أن ملك الملوك هذه اللحظة يقول اسمك ! يقول : عبدي فلان بن فلان ذكرني ..
الدنيا كلّها تافهة .. لا تساوي مثل هذا التخيّل ..
وقربه هذا يزيد .. فبالتوبة والإنابة والطاعات تزيد قربا منه يقول في الحديث القدسي : " إذا تقرّب مني شبرا تقرّبت منه ذراعا .. وإذا تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا " ..
فكل محاولة اقتراب منك إليه بالطاعة يعقبها اقتراب منه إليك بالأفضال والنعم والعطايا والهبات ..
ومن معاني قربه أنّه يريك في كل شيء من حولك معنى يذكّرك به ..
فترى حكمته في دقّة تركيب مخلوقاته ..
وترى قدرته في رفع سماواته بلا عمد ..
وترى رحمته في إنزال المطر وإنبات الشجر ..
وترى عظمته في شموخ الجبال ..
وترى عذابه في البراكين والزلازل والكوارث ..
إلهي ..رايتك
إلهي سمعتك
رأيتك في كل شي ..
سمعتك في كل حي ..
تعاليت لم يبد شيء لعيني
تباركت لم ينب صوت بأذني
ولكن طيفاً بقلبي يهل
ومن طيفه كل نور يطلّ
***
يقول تعالى : " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحق"
إذا أبصرت شيئا بعينيك فبصرك يذكرك بالبصير سبحانه
وإذا سمعت همسا في دجى الليالي فسمعك يذكرك بالسميع سبحانه
وإذا علمت شيئا من خفي العلم فعلمك يذكرك بالعليم سبحانه ..
وفي كل شيء له آية تدلّ على أنّه الواحد
قريب لا تحتاج حتى تصل إليه إلاّ أن يخطر ببالك .. أن تشعر بقربه .. أن تحسّ بأنّه يراك .. ثم تقول : يالله ..
" وإذا سألك عبادي عني فإني قريب "
أي شخص يسألك عن الله فأوّل شيء تصف ربّك به هو أنّه قريب منه ! النفوس مفطورة على عدم استعدادها لعبادة رب بعيد .. لا يسمع دعاءها .. ولا يرى حاجاتها .. فمن أهم الصفات التي تبتدر بها الذي يريد التعرّف على الله أن تخبره أن ربّه " قريب" .. هكذا علّمك سبحانه أن تخبر عنه !
وهذا القرب علاوة على أنه يجعلك تحبّه ، وتأنس به ، وتخشاه .. إلا أنه فوق ذلك يجعلك تدمن على استغفاره والتوبة إليه .. فالقريب : من جهة يستحق أن يُستغفر ويتاب إليه لأنّه بقربه اطلع على كل غدراتك وفجراتك .. ومن جهة أخرى فهو قريب قرباً يجعل استغفارك وتوبتك ناجعة ، فلن يغفر لك إلا من سمع استغفارك ولن يتوب عليك إلا من علم توبتك .. فهو القريب المجيب .. وبعد هذا تأمل قوله سبحانه : "فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب "
ومن نوادك التعابير التي تصيبك بالحياء من القريب سبحانه قول أحدهم : " ألا يستحق أن تحبّه ؟ : في اللحظة التي تغلق الباب على نفسك لتعصيه .. يدخل لك الأكسجين من تحت الباب لتتنفس "
وهذا القرب يقابله محاولة تقرّب من العبد إليه سبحانه : "أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب " .. إنّه مضمار المسارعة ، والمسابقة .. والتي لا يكون قصارى رغبة العبد منه أن يكون قريباً بل أن يكون الأقرب !
الله قريب من غزّة
وفي أجواء المحن التي تعيشها الأمة ، ومن بين أدخنة الحروب المهلكة التي تمسّ أفئدة المؤمنين في غزّة وغير غزّة باللأواء ، يحتاج المؤمن هناك إلى ثلاث مستويات معرفية متعلّقة باسم القريب :
الأولى : معرفة قربه سبحانه إيماناً ويقيناً .. ليريح نفسه من عناء الصراخ والاستنجاد بالبشر .. فرب البشر قريب شهيد مطّلع .. فيجد في القرآن آية تقول له بكل وضوح : " إنه سميع قريب " .. فيلقي عند أعتابها حرقات روحه المكلومة .. وكل ما سبق في المقالة يصب في خانة هذا المستوى المهم ..
الثانية : ومن بين لهيب القهر ، ورؤية تفاصيل الشتات ، وتهدّم البيوت ، وموت الأنفس ، وهلاك الثمرات .. يريد رحمة .. يبحث عن رحمة .. يتمنى رحمة تنهي عذابات خذلان الإخوة .. وطعنات الغدر المتوالية ..فيقف عند قول الحق سبحانه :" إن رحمة الله قريب من المحسنين " .. يالله .. إذن ليس بين ذلك المجاهد المغوار الذي نذر روحه للجبار إلا ستار شفيف تلوح من خلفه مخايل الإحسان .. فقط يحتاج أن يجاهد في الأرض بطريقة ملائكية يشعر فيها أنّه يرى الله ! فإن لم يكن يرى الله فإن الله يراه .. فلا يطلق رصاصة إلا ولديه جواب عن لماذا وكيف ومتى أطلقها ! ولا يزال العبد ينتقل من إحسان إلى إحسان .. وتكون في المقابل رحمة الله أقرب إليه من غيره .. حتى تغشاه الرحمة من كل مكان .. تنتزعه من أدخنة الموت إلى سحائب الرضا ..
الثالثة : وتطول الأيام .. وتتوالى الزفرات .. وتشتد البلاءات .. ويُحكم الحصار من كل مكان .. وعند ذلك تطلّ روح المجاهد على آية ثالثة يقول فيها الحق : "ألا إن نصر الله قريب" ..
فكما أنّه قريب سبحانه من عباده .. وكما أن رحمته أيضاً قريبة من المحسنين منهم .. يأتي النصر القريب من جند الله .. " وإن جندنا لهم الغالبون " ..فيربط الله بذلك على قلوب أضناها الانتظار .. وأرهقها الاصطبار ..
وبعد هذه السياحة التفكرية في اسم الله القريب .. أسأل الله أن يجعلنا ممن يستحضر قربه .. ويعمل وفق ما يمليه هذا الاسم الأعظم من معاني الذل والإخبات والمراقبة والخشية .. وطلب الرحمة والنصرة منه وحده ..
هذا وصلَ الله وسلم على سيدنا محمد .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..
علي جابر الفيفي